- مقدمة
اسـتهلّ المفكـر الفرنسـي ريجيـس دوبريـه كتابـه (حيـاة الصـورة وموتهـا) ببدايـة مشـوقة، تتنـاول قصـة أحـد أباطـرة الصيـن القدامـى، وقـد طلـب مـن كبيـر الرسـامين فـي القصـر الإمبراطوري أن يقـوم بإزالـة صـورة الشلال الموجـودة ضمـن لوحـة جداريـة قـام برسـمها فـي القصـر، فقـد كان صـوت خريـر المـاء المنبعـث مـن الشلال الصامـت يحـول بينـه وبيـن النـوم! لقـد تركـت هـذه الصـورة المرئيـة فـي ذهنـه وسـلوكه أثـرًا كبيـرًا، يعكـس بوضـوح مـدى تأثيـر الصـورة علـى سـلوك الشـخص، وإن كنـا نتحـدث هنـا عـن الصـورة المرئيـة، فمـاذا عـن الصـور الذهنية التي تطبـع فـي أذهاننـا تجـاه الأشياء والأشخاص والأماكن والجهـات، والتـي توجهنـا بدورهـا نحـو سـلوك معيـن؟
سوف نتنـاول فـي هـذه السلسلة من المقالات تفاصيـل الصـورة الذهنيـة وتعريفاتهـا وخصائصهـا وخطـوات بنائهـا، وبعـض نماذجهـا التطبيقيـة، بالإضافة لبعـض البنـود الأخرى، ودعونـا نبـدأ قبـل ذلـك بسـرد مختصـر عـن نشـأة الصـورة الذهنيـة
- استهلال
تبلـور مفهـوم الصـورة الذهنيـة كمصطلـح فـي السـتينات مـن القـرن الماضـي عندمـا قـام الكاتـب الأمريكي (لـي بريسـتول) بتأليـف كتـاب حـول تطويـر صـورة المنشـأة، وقـد أوضـح فيـه الأثر الكبير الـذي يمكـن أن تحققـه الصـورة الذهنية للمنظمات، ما أسـهم في شـيوع مفهومها بيـن رجـال الأعمال والأوساط المتعلقـة بالمنشـآت التجاريـة أولاً، ثـم ليعمـم بعـد ذلـك فـي مجالات سياسـية وإعلامية ومهنيـة مختلفـة.
وقـد تعـددت الكتابـات حـول المصطلـح فـي أكثـر مـن مصـدر، فقـد جـاء فـي كتـاب منيـر محمـد حجـاب (الاتصال الفعـال للعالقـات العامـة) أن المصطلـح ظهـر للوجـود عـام 1908 علـى يـد العالـم جراهـام دالس الـذي ذكـر فـي كتابـه (الطبيعـة البشـرية والسياسـية) أن الناخبيـن بحاجـة لتكويـن صـورة مبسـطة ودائمـة عنـد الثقـة بمرشـح مـا، بينمـا وضـع الصحفـي الأمريكي والتـر ليبمـان فـي كتابـه (الـرأي العـام) الصـادر فـي 1922م، اللبنـات الأولى لاستخدامات المفهـوم المتعـددة. أمـا دراسـة (كتـز وبرلـي) المنشـورة عـام 1933 فقـد كانـت تسـتهدف جمهـورًا محـددًا مـن الأمريكيين، بغـرض معرفـة الصـورة الذهنيـة المتشـكلة لديهـم تجـاه مجموعـات قوميـة وعرقيـة أخـرى، كالألمان والإنجليز والأفارقة واليهـود.
- مفاهيم
يعبـر مفهـوم الصـورة الذهنيـة عـن التصـورات التـي يحملهـا أفـراد المجتمـع عـن العالـم مـن حولهـم بمكوناتـه المختلفـة، وتعـد الصـورة نتاجًـا طبيعيـًا لمجمـوع خبـرات الأفراد المباشـرة وغيـر المباشـرة التـي يتلقونهـا عبـر تفاعلاتهم الاتصالية المختلفـة، ولا شـك أن سـهولة التغييـر أو صعوبتـه يعتمـد علـى مـدى رسـوخ الصـورة الذهنيـة لـدى الجمهور.
ويمكـن القـول إن الصـورة الذهنيـة هـي الخريطـة التـي يسـتطيع الإنسان مـن خلالها أن يفهـم ويـدرك ويفسـر الأشياء، وهـي الفكـرة التـي يكونهـا الفـرد عـن موضـوع معيـن، سـواء كانـت صحيحـة أو خاطئـة، ومـا يترتـب عـن ذلـك مـن أفعـال سـلبية أو إيجابيـة. ويشـير د. علـي عجـوة إلـى أن الصـورة الذهنيـة هـي الناتـج النهائـي للانطباعات الذاتيـة للأفراد أو الجماعـات إزاء منظمـة مـا، وتتكـون هـذه الانطباعات مـن خلال التجـارب المباشـرة أو غيـر المباشـرة، وترتبـط بعواطـف الأفراد واتجاهاتهـم وعقائدهم وعرض قامـوس ويبسـتر فـي طبعتـه الثانيـة تعريفً لـ لكلمـة (Image) والتـي تعنـي الصـورة بأنهـا تشـير إلـى التقديـم العقلـي لأي شـيء لا يمكـن تقديمـه للحـواس بشـكل مباشـر، أو هـي إحيـاء أو محـاكاة لتجربـة حسـية ارتبطـت بعواطـف معينـة، وهـي أيضًـا اسـترجاع بشـكل مباشـر، أو تخيـل لمـا أدركتـه حاسـتا النظـر أو السـمع.
- تعريفات
وهنـاك عـدة تعريفـات لمفهـوم الصـورة الذهنيـة داخـل الدائـرة المعرفيـة للباحثيـن الغربييـن، أغلبهــا مــستمد مـن طبيعـة الدراسـات الوصفية المتناثرة في الحقول الأدبية، وهنـا نسـتعرض بعضهـا:
روبينسـون و بارلـو:
هـي الصـورة العقليـة التـي تتكـون فـي أذهـان النـاس عـن المنظمـة أو التنظيـم، وقـد تتكـون الصـور مـن التجربـة المباشـرة أو غيـر المباشـرة.
هارولـد ماركـس:
هـي إجمالـي الانطباعات الذاتيـة للجماهيـر عـن المنظمـة، وهـي انطباعـات عقليـة غيـر ملموسـة تختلـف مـن فـرد إلـى آخـر، وهـي المشـاعر التـي تخلقهـا المنظمـة لـدى الجماهيـر بتأثيـر مـا تقدمـه مـن منتجـات، ومـا تفرضـه العلاقات مـع الجماهيـر والمجتمـع، والاستثمار فـي النواحـي الاجتماعية ومظهرهـا الإداري، وتندمـج تلـك الانطباعات الفرديـة لتكويـن الصـورة الذهنيـة الكليـة للمنظمـة.
جيمـز جـراي:
هـي الانطباعات والمـدركات الكليـة للجماهيـر المتعـددة للمنظمـة تجـاه أعمالهـا، وتشـكل هـذه الانطباعات مواقـف جماهيـر المنظمـة الداخليـة والخارجيـة تجاههـا.
فيرانـد و بيجـز:
يـرى أن الصـورة الذهنيـة قـادرة علـى إيجـاد قيمـة، وأن لهـا تأثيـراً علـى سـلوك المسـتهلك أو العميـل، حيـث تتضمـن إدراكًا معينًا لديهـم، وقـد لا يعكـس هـذا الإدراك الحقيقـة الموضوعيـة.
بويد:
يرى بأنها تسـاهم في تحسـين السـلوك والمواقف الفردية عند الموظفين، ويؤكـد أنهـا كنـز مـن الصعـب الحصـول عليـه ومـن السـهل ضياعـه، ولكي تتميـز المنظمات عـن بعضهـا البعـض وحتـى تمتلـك الميـزة التنافسـية الضروريـة يقـول إن عليهـا التخطيـط لصـورة ذهنيـة تركـز علـى اختلافات دقيقـة، مثـل: الخدمـة والاعتمادية وسـرعة التوصيـل والأمان.
كينث بولدنج:
تتكون الصورة الذهنية من تفاعل الإنسان مع كل من المكان الذي يعيش فيه، وموقعه في العالم الخارجي. الزمان والمعلومات التاريخية للحضارة الإنسانية. العلاقات الشخصية وروابط الأسرة والأصدقاء. الأفعال المرتبطة بالطبيعة والخبرات المكتسبة حيالها. الأحاسيس والمشاعر والانفعالات. احتياجات الجماهير ومطالبهم واهتماماتهم وتطلعاتهم. ردود أفعال الجمهور تجاه سلوك المنظمة وأقوال المسؤولين فيها.
- الخلاصة
وعلـى الرغـم مـن أهميـة العناصـر التـي أشـار إليهـا بولدنـج، إلا أنهـا ليسـت مكونـات الصـورة، وإنمـا عوامـل مؤثـرة فـي رسـم حـدود الصـورة وملامحها، أمـا مكوناتهـا فهـي كل الأجزاء التـي انعكسـت فـي ذهـن الإنسان عـن الشـيء، فالصـورة الذهنيـة للمنظمـة تشـمل العديد من العناصـر التي سيتم ذكرها في المقالات القادمة.